نداء أوجلان التاريخي- حلّ حزب العمال الكردستاني ومستقبل القضية الكردية في تركيا

المؤلف: د. سعيد الحاج09.16.2025
نداء أوجلان التاريخي- حلّ حزب العمال الكردستاني ومستقبل القضية الكردية في تركيا

في منعطف تاريخي حاسم، أطلق الزعيم الروحي لحزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، مبادرة جريئة تدعو إلى حل الحزب المثير للجدل، وإنهاء كافة العمليات المسلحة ضد تركيا. هذه الدعوة، التي تختلف جوهريًا عن المبادرات السابقة التي شهدها العقد الماضي، تأتي في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد، مما يزرع بذور الأمل في تحقيق نتائج أكثر إيجابية هذه المرة.

نداء أوجلان

ففي السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط، ومن خلال رسالة تم تسليمها عبر وفد من حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب الذي زاره في محبسه، وجّه الزعيم المؤسس للمنظمة الانفصالية، والقابع في السجن منذ عام 1999، نداءً مصيريًا يطالب بحل الحزب بشكل كامل.

وقد عنْوَن أوجلان رسالته بـ "دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي"، حيث استعرض فيها "العلاقات التركية – الكردية الضاربة في جذور التاريخ لأكثر من ألف عام"، مشيرًا إلى التحالف الوثيق الذي جمع الأكراد والأتراك على الدوام في سبيل البقاء ومجابهة القوى الخارجية الطامعة.

وأشار إلى أن "الحداثة الرأسمالية قد سعت جاهدة خلال القرنين الماضيين لزرع بذور الفتنة وتفكيك هذا التحالف المتين"، مؤكدًا على أن المهمة الأساسية اليوم تكمن في "إعادة صياغة هذه العلاقة التاريخية الهشة بروح من الأخوة والتآخي"، الأمر الذي يجعل "المجتمع الديمقراطي ضرورة ملحة لا يمكن التغاضي عنها"، على حد تعبيره.

وبصوت عالٍ وواضح، حث أوجلان حزب العمال الكردستاني على إلقاء السلاح نهائيًا، وحل نفسه ذاتيًا، والانخراط في العمل السياسي السلمي "مع تحمل المسؤولية التاريخية الكاملة عن هذا القرار"، داعيًا قادة الحزب إلى عقد مؤتمر عام وإعلان حل الحزب رسميًا و"التخلي عن جميع أشكال العنف المسلح"، والانخراط في مسيرة التكامل مع الدولة والمجتمع.

وقد ربط الزعيم الكردي التاريخي مشروعية تأسيس حزبه في الماضي بظروف الحرب الباردة التي كانت سائدة، و"إنكار الهوية الكردية"، وانسداد جميع قنوات العمل السياسي السلمي، وفرض قيود خانقة على الحريات العامة.

ويرى أوجلان أن هذه العوامل قد تلاشت أو تغيرت بشكل جذري، مما أدى إلى "فقدان حزب العمال الكردستاني لجوهر وجوده، ودفعه إلى التكرار المتشدد للعنف"، وبالتالي فقد "استنفد عمره الافتراضي، وأصبح حله أمرًا ضروريًا ولا مفر منه".

والجدير بالذكر أن أوجلان قد قام في رسالته التاريخية بتفنيد بعض المطالب التقليدية التي لطالما نادى بها حزبه، مؤكدًا على أن الحلول المطروحة من قبيل إقامة دولة قومية منفصلة، أو نظام فيدرالي، أو إدارات ذاتية، أو حتى الحلول الثقافوية "لن تجد صدى إيجابيًا لدى الشعب" وفقًا لمسار التطور السياسي التاريخي، مما يجعل الديمقراطية والعمل السياسي السلمي الخيار الوحيد واللازم لتحقيق تطلعات الشعب، وذلك وفقًا لما جاء في الرسالة.

لماذا الآن؟

لقد شرعت الدولة التركية في وقت سابق في مسار تسوية سياسية مع حزب العمال الكردستاني، وذلك ابتداءً من عام 2009، بعد سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية والسياسية التي استهدفت بشكل خاص الطيف الكردي، وقد توصلت معه إلى شبه اتفاق يقضي بمنح الأكراد حقوقًا سياسية وثقافية إضافية مقابل إلقاء السلاح وانسحاب عناصر الحزب من الأراضي التركية.

وقد وجه أوجلان نداءً مماثلًا في هذا الشأن عام 2013، وكرره مرة أخرى عام 2015، إلا أن هذا المسار قد توقف وتكلل بالفشل، وكان الدافع الرئيسي وراء ذلك في ذلك الوقت هو التطورات المتسارعة التي شهدتها الثورة السورية وتداعياتها الخطيرة، حيث أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي (الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني) عن إقامة إدارات ذاتية في ثلاثة كانتونات في الشمال السوري.

إذ أعادت هذه التطورات السورية والإقليمية إلى حزب العمال الكردستاني حلم إقامة الدولة الكردية المستقلة، فاستأنف عملياته المسلحة داخل الأراضي التركية، وأعلن عن إدارات ذاتية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وخاض حرب شوارع مدمرة، كما شنت تركيا العديد من العمليات العسكرية ضد امتداداته السورية، وطورت عملياتها ضد معاقله في شمال العراق.

واليوم، ومرة أخرى، يدفع السياق الإقليمي والدولي إلى تطورات عميقة وهامة في المسألة الكردية، ولكن في الاتجاه المعاكس تمامًا. فقد عزز سقوط النظام السوري أوراق تركيا في مواجهة المشاريع الانفصالية في الشمال السوري، لا سيما وأنها تتفق مع القيادة السورية الجديدة على الحفاظ على وحدة الأراضي والمؤسسات السورية، ووضعت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في موقف دفاعي صعب للغاية، بل وعززت من أوراق التفاوض التركية مع الإدارة الأميركية التي تعتبر الداعم الأبرز لقسد.

كما أن إعادة انتخاب ترامب قد أعاد إلى الأذهان أفكاره القديمة المتعلقة بضرورة سحب قوات بلاده من الأراضي السورية، وهو ما يضع قسد في مهب الريح، على الصعيد السوري أولًا، وفي البعد الإقليمي ثانيًا.

كما لا ينبغي إغفال العوامل المحلية الهامة، وفي مقدمتها النجاح الكبير الذي حققته عمليات المكافحة والحرب الاستباقية التركية على مدى السنوات الماضية في منع هجمات حزب العمال الكردستاني وتقويض إمكاناته وتقليل أعداد المنتسبين إليه.

كما أن نداء دولت بهتشلي، الزعيم القومي وحليف الرئيس أردوغان، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، بخصوص إيجاد حل نهائي للمسألة الكردية، قد فتح آفاقًا واسعة للمسألة، خصوصًا أنه كان تقليديًا من أشد المعارضين لأي تسوية من هذا القبيل.

 

من جهة أخرى، ينبغي الإشارة إلى أن أوجلان، الزعيم التاريخي والمُنظر لحزب العمال الكردستاني، قد قام بمراجعات فكرية وسياسية هامة في الماضي، وقد نشرت له سابقًا العديد من المقالات التي تتضمن مراجعات لأفكار الحزب ومنهجيته.

ولعل الرسالة الأخيرة التي أشارت إلى انتفاء أهم العوامل التي شكلت السياق الذي تأسس به الحزب، ثم تفنيده لأي مطالب خارج الإطار السياسي الداخلي التركي، تحمل مؤشرات قوية على مراجعات فكرية وتنظير جديد وفق قراءة متأنية لمجمل التطورات المحلية والإقليمية والدولية، فضلًا عن التغيرات الجذرية التي طرأت على فكر الحزب وواقعه و"معناه"، وليس مجرد مناورة سياسية ظرفية.

الفرص والتحديات

يتميز نداء أوجلان الأخير عن سابقيه من حيث المضمون والسياق، حيث لم يكتفِ أوجلان بالدعوة إلى وقف العمليات المسلحة ضد تركيا، كما حصل في السابق، وإنما دعا إلى حل التنظيم بشكل كامل وإلقاء السلاح نهائيًا، والانخراط في العمل السياسي السلمي، معللًا ذلك بتغير السياق وانتفاء المعنى وتراجع المشروعية وانعدام الفائدة لما انتهجه حزب العمال الكردستاني على مدى أربعة عقود.

يجعل كل ذلك النداء تاريخيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويضع تركيا على أعتاب بداية مسار جديد يمكن أن يخلصها من الملف الأكثر حساسية في مشهدها الداخلي، والذي كلفها عشرات الآلاف من الضحايا، ومئات المليارات من الدولارات، ونسيجًا مجتمعيًا واهنًا، وثغرات واسعة للتدخل الخارجي.

بيد أن التجارب التاريخية تؤكد صعوبة القضاء على ظواهر من هذا النوع بشكل كامل، لا سيما حين تحظى بدعم خارجي. فما هي فرص النجاح هذه المرة؟

ثمة عوامل داخلية وخارجية مهمة تساهم في رفع سقف التوقعات من المسار الجديد، وفي مقدمتها ما سلف تفصيله من سياق إقليمي ودولي يضيّق الخناق على حزب العمال الكردستاني وامتداداته في المنطقة، ولا سيما ما يتعلق بالدعم الأميركي المباشر لهذا المشروع، وخصوصًا في سوريا.

كما أن تصريحات رئيس إقليم كردستان العراق نجيرفان البارزاني ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الداعمة لنداء أوجلان، وتثمين قيادات قسد له، تشير إلى وجود مناخ إقليمي داعم لهذا التوجه.

وهناك رضا من الدولة التركية، بالحد الأدنى، عن الخطوات التي تمت حتى اللحظة. يتبدى ذلك في دعوة دولت بهتشلي، ودعم أردوغان لها، وترتيب زيارات لعبدالله أوجلان من حزب ديمقراطية ومساواة الشعوب، ولقاء الوفد الزائر مع عدد من الأحزاب السياسية (منها العدالة والتنمية والحركة القومية) ورئاسة البرلمان، والسماح بنقل رسالته في وسائل الإعلام.

كما أن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية أفقان آلا، وفي أول تعليق رسمي، رحب بالدعوة التي "جوهرها إلقاء السلاح وحل التنظيم الإرهابي"، مشيرًا إلى أن "تركيا ستتحرر من قيودها" إذا ما تحقق ذلك على أرض الواقع.

كما أن أوجلان، ورغم سِنِيْ سجنه التي تربو على ربع قرن، ما زال يحظى بمكانة رمزية كبيرة وينظر إليه حتى اللحظة كزعيم تاريخي وحالي لحزب العمال الكردستاني، مما يمنح كلماته قوة تأثير ومصداقية لدى أتباع الحزب.

ومن المهم الإشارة إلى أن رسالة أوجلان كانت واضحة ومباشرة لا تترك مجالًا للمناورة أو التأويلات المتعددة.

كما أن بعض قيادات حزب العمال الكردستاني قد غيرت موقفها مؤخرًا من التقليل من أهمية ما يصدر عن أوجلان، باعتباره "أسيرًا لا يملك قراره"، إلى التأكيد على زعامته وتثمين كلامه.

في المقابل، ثمة تحديات عديدة تواجه المسار الذي يهدف إلى حل مشكلة معقدة ومتشابكة داخليًا وخارجيًا وعالقة منذ عقود.

في مقدمة ذلك أن المسار غير واضح المعالم حتى اللحظة، أو بكلام أدق لم يتم الإعلان حتى اللحظة عما هو مطلوب أو مرغوب أو معروض من الحكومة التركية، مقابل هذا النداء التاريخي. وبالتالي، من الصعب التكهن بآفاق نجاحه.

التحدي الآخر يتمثل في الحالة الصحية لدولت بهتشلي، اللاعب المهم وصمام الأمان ومطلق المسار الحالي، حيث يُتداول أن صحته متدهورة إضافة إلى تقدمه في السن، مما يجعل فكرة غيابه عن المشهد السياسي حاضرة وأسئلة تأثير ذلك على المسار قائمة.

وهناك بالتأكيد التحدي الأكبر المرتبط بمدى استجابة قيادات حزب العمال الكردستاني، ولا سيما الموجودين في جبال قنديل، للنداء ومتطلباته.

فرغم بعض التصريحات الإيجابية، فإن توقع الانصياع الكامل سيكون تسرعًا في غير محله، في قضية تمتزج فيها الأيديولوجيا مع السلاح والمال مع النفوذ والقناعات مع الرهان على الخارج، فضلًا عن أن التجارب السابقة تدعو إلى التفاؤل الحذر في جميع الأحوال.

كما أن ارتباط المسار بالتطورات الخارجية، ولا سيما في سوريا والعلاقات مع واشنطن، يترك دائمًا هامشًا للمناورة والتغيير في حال حصول تطورات هامة متعلقة بها.

ختامًا، وعلى الرغم من أهمية نداء أوجلان كإعلان تاريخي يفتح مرحلة جديدة في المسألة الكردية في تركيا والمنطقة، فإننا ما زلنا في بدايات المسار المرتقب. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه مسار طويل وشاق وليس مجرد محطات محددة يمكن أن تنهي الملف بتصريح هنا أو رغبة هناك.

وعلى الرغم من ذلك، يضع النداء حزب العمال الكردستاني أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن يلقي السلاح وينخرط في العمل السياسي السلمي، أو يندفع إلى صراعات داخلية بين أنصار أوجلان ورافضي دعوته، أو أن يفقد الكثير من مصداقيته وتأثيره على الطيف الكردي.

وفي كل ذلك، يبدو موقف أنقرة اليوم أقوى بكثير من أي وقت مضى، ومساحات المناورة أمامها أوسع بكثير من السابق، وفرص نجاحها هذه المرة أعلى بمراحل من التجارب السابقة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة